إسبانيا ترحب بالأطفال السوريين الفارين من الحرب بمفردهم
إسبانيا ترحب بالأطفال السوريين الفارين من الحرب بمفردهم
حمل المدرّس المتطوع بيينفنيدو أورتيغا مكنسة وتظاهر بأنه يكنس أرض الصف، معتمداً نهج اللعب في تعليم اللغة.
سأل الطلاب الجالسين على مقاعدهم في غرفة مزينة بخرائط العالم: "أين ستكونون غداً؟". أجابوا: "في الصف!". ثم سأل: "هل ستدرسون أم ستلعبون؟". وأتى الرد واحداً ممزوجاً بالضحك: "سندرس!".
يعني اسم بيينفنيدو "أهلاً" باللغة الإسبانية، وعلاقة هذا الأستاذ اللطيفة مع طلابه من الأطفال السوريين الذين فروا بمفردهم من الحرب الأهلية في بلادهم ملفتة.
يقول محمود* البالغ من العمر 16 عاماً والذي فر بمفرده من المجازر والفوضى في حلب: "إنه لا يتصرف كمدرّس، بل كأب مع أبنائه. يضحك دائماً، ويتحدث ويطلق النكات. إنه رائع".
في العام الماضي، أصبحت حكومة الأندلس الإقليمية الأولى في إسبانيا في استضافة أطفال سوريين لاجئين غير مصحوبين مثل محمود. ومنذ سبتمبر، استقبلت ثمانية شبان تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً- ستة فتيان وفتاتان- نُقلوا جميعاً من اليونان.
كان الهدف من وراء ذلك توفير بيئة آمنة وراعية في محيط سكني وموارد اجتماعية وصحية وتعليمية وثقافية وترفيهية مصممة لإتاحة "نموهم الاجتماعي" ومساعدتهم على الشعور بالإندماج.
"مهمتنا هي دعمهم في بيئة يشعرون فيها بالأمان"
وبحضور عامل الرعاية، تحدثت مجموعة من الشباب في منزلهم في موتريل عن فرارهم من القتال والقتل والتجنيد القسري والفقر المدقع في بلادهم، وتهربهم من المقاتلين المسلحين للتسلل إلى تركيا.
ركبوا زوارق مطاطية مزدحمة للوصول إلى اليونان، حيث عاش البعض حياة قاسية في الخيام في مخيم تعمه الفوضى بالقرب من الحدود مع جمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة.
ويتذكر محمود: "كان الأمر سيئاً جداً، سيئاً للغاية. كان الناس يسرقون ويقتلون ويقومون بأفعال مشينة مع الفتيات. الكثير من الأفعال السيئة... ليس مكاناً للأطفال... أحياناً كنا ننام جائعين...".
يعيشون الآن في منزل جماعي في شارع هادئ وصوت طائر الكناري هو أعلى صوت يسمعونه. يتقاسم الشباب غرفاً نظيفة، ويجلسون معاً لتناول وجبات الطعام، ويذهبون إلى المدارس الثانوية، في إطار مشروع تديره حكومة الأندلس الإقليمية وتدعمه المفوضية.
وتقول مارغريتا دي لا راسيليا، وهي مسؤولة قانونية تابعة للمفوضية في إسبانيا: "مهمتنا هي دعمهم في بيئة يشعرون فيها بالأمان، لإتاحة نموهم الاجتماعي ومساعدتهم على الشعور بالاندماج".
وقُدمت للأطفال إمكانية المشاركة في أنشطة ما بعد الدوام المدرسي كجزء من الجهود المبذولة لإدماجهم في البلدة التي يعيش فيها 60,000 نسمة جنوب العاصمة الإقليمية، غرناطة. وتتراوح هذه الأنشطة من الدروس المسائية للغة الإسبانية في نادي اليونيسكو في موتريل- حيث يعلّم بيينفنيدو- إلى تجربة العمل والتطوع.
"نحن سعداء تماماً معهما، ونأمل ألاّ يغادرا أبداً!"
يقوم طارق البالغ من العمر 17 عاماً، من العاصمة السورية دمشق، بتجربة عمل في مطعم محلي. يرتدي مئزراً أسود وقبعة طاهٍ وربطة عنق ويتوجه نحو المطبخ لإعداد المنتجات المحلية المصدر. في البداية، لم يكن متحمساً جداً للنظام الغذائي الإسباني الغني بالأسماك، لكنه يقول بأنه بدأ يحب الطعام ويوسع دائرة أصدقائه.
ويضيف: "سارت الأمور على ما يرام... التقيت الكثير من الناس هنا سواء في المدرسة أو في المطعم. وشيئاً فشيئاً، تعلمت الكثير".
بالنسبة لمدير المطعم، ألفارو غارسيا، فإن وجود هذا الشاب اليقظ الضمير والعذب الحديث ضمن الفريق كان تجربة جيدة ويعتقد أنه يجدر بأصحاب العمل المحليين الآخرين اختبارها.
وكما يقول، جالساً إلى طاولة مع مفرش المائدة الأبيض في مطعمه المبرد: "قد يعتقد الناس أن ذلك سيسبب لهم المشاكل، لكنّ العكس هو الصحيح. يأتون للتعلم، وليس للتسبب بالإزعاج. كانت تجربة إيجابية جداً".
أما الياس البالغ من العمر 16 عاماً والذي فر من القامشلي المدمرة بسبب الحرب مع شقيقته الصغرى، فهو يتطوع الآن مرةً في الأسبوع في "كونيكتا"، وهي منظمة محلية غير ربحية تجمع الأطفال المصابين بالتوحد مع شباب صغار من سنهم. ويتذكر كيف كان يكافح للتعبير عن نفسه عندما وصل أولاً إلى موتريل، وبحث عن سبل للتواصل مع خوان، وهو مراهق يعاني من التوحد غير اللفظي.
ويشرح الياس قائلاً: "شعرت بنوع من التعاطف معه. تواصلت معه مستخدماً يدي وعيني".
أما الآن فالحدث الاجتماعي الأسبوعي الذي يُقام في مبنى خلف ميناء المدينة الصغير، فهو "أفضل شيء أفعله"، كما يقول. فوسط الصخب والثرثرة، يلعب وخوان كرة السلة مع الأطفال الآخرين، أو يجلسان جنباً إلى جنب يتناولان الخبز والزبدة أثناء الـ"ميرياندا" أو الاستراحة.
وبالنسبة لمؤسسة "كونيكتا" ورئيستها، إليزا سالامانكا، فرؤية الأطفال يتفاعلون مع الياس وشاب سوري آخر متطوع فرحة لا توصف.
وتقول بابتسامة عريضة: "إنهما ودودان جداً، ويتفاعلان ويتعاطفان للغاية (مع الأطفال)، ويجلبان الكثير من السعادة. نحن سعداء تماماً معهما، ونأمل ألاّ يغادرا أبداً!".
"أستطيع أن أدرس وأفعل أشياء مثل أي شخص آخر. بالنسبة لي، هذا يكفي".
في عام 2016، قامت السلطات الأندلسية بتوفير 24 مكاناً لطالبي اللجوء من الأطفال السوريين غير المصحوبين، وتتطلع إلى استقبال 16 طفلاً آخرين.
وقد حثت المفوضية الدول على رفع وتيرة نقل طالبي اللجوء المؤهلين من إيطاليا واليونان، بمن فيهم الأطفال غير المصحوبين.
وقد اتصلت بالمفوضية حكومات إقليمية اُخرى مهتمة بالأمر أيضاً، بما في ذلك كاتالونيا وكانتابريا وبلاد الباسك، حيث يحصل الشركاء الذين يستعدون لاستضافتهم على تدريب متخصص من المفوضية.
في البداية، وجد بعض الأطفال في المشروع التجريبي صعوبة في التكيف مع الحياة في مدن الأقاليم الإسبانية، ولم يعجبهم الطعام غير المألوف وفقدان استقلاليتهم. ومع ذلك، تقول دي لا راسيليا: "يمكنكم أن تروا كيف تغيرت طريقة تفكيرهم شيئاً فشيئاً، وباتوا يرون الفرص المتاحة أمامهم".
وقال جميع الأطفال الذين تمت مقابلتهم بأنهم باتوا يحبون حياتهم الجديدة بطريقة أو بأخرى. ويقول محمود: "في البداية، لم أحب شيئاً، لم أشأ أن أعيش هنا".
ويضيف: "لم أحب المنزل، لم أحب أحداً، ولكن الآن كل شيء على ما يرام. هناك طعام ومياه، ويمكنني الاستحمام والنوم والبحث عن عمل. أستطيع أن أدرس وأفعل أشياء مثل أي شخص آخر. بالنسبة لي، هذا يكفي".
وبالنسبة لطارق، وهو شاب رصين يتحدث بدقة، فإن النقل إلى موتريل "غيّر كل شيء".
وقال: "هنا في إسبانيا، لدينا روتين يومي نتبعه. علينا أن نذهب إلى المدرسة، أن نجلس معاً لتناول الطعام، أن نذهب إلى العمل".
توقف، ثم للحظة، ظهر الطفل داخل الشاب الذي يحاول أن يبدي رباطة الجأش، ليختم: "هذا مهم لأننا ما زلنا أطفالاً".
*تم تغيير الأسماء لأغراض الحماية.