الفرار من سنجار.. قصة شاب عراقي مع لغم أرضي
الفرار من سنجار.. قصة شاب عراقي مع لغم أرضي
اعتقد عصام أنه فقد كل ما يهم عندما فرت عائلته من منزلها في سنجار، في إقليم كردستان في العراق، خلال هجوم في أغسطس/آب 2014. ولكن، بعد أشهر قليلة من العثور على مأوى في أمادي، وهي مدينة ساحرة جاثمة على قمة جبل في محافظة دهوك، ركض على منحدر تلة لاسترداد الكرة حيث داس على لغم أرضي. مزق الانفجار جسده بالشظايا وبترت قدمه اليسرى.
يقول عصام: "لا بد أنه قدري،" مشيراً إلى أنه سلك الطريق وأبناء أعمامه عشرات المرات سابقاً. وفيما يبدو أحياناً في حالة ذهول، يقول لي إن إصاباته الجسدية شفيت جيداً منذ وقوع الحادث في نوفمبر/تشرين الثاني، ولكنه ذهنياً، لم يعد الشخص نفسه.
بات عصام يتقن المشي على عكازين، وصار يجول برشاقة حول المركز المجتمعي الذي بات منزله. لكنه يقول إنه يخاف جداً العودة إلى الحديقة حيث كان يلعب. ويعاني كذلك من مشاكل في النوم؛ إذ يستيقظ كل ليلة تقريباً وهو يصرخ مذعوراً من الكوابيس.
تشكل الألغام الأرضية خطراً يعرفه جيداً المقيمون في هذا الجزء من العراق. إنها من بقايا حرب صدام حسين ضد الأكراد في ثمانينيات القرن العشرين، والصراعات الداخلية بين الأحزاب السياسية المتنافسة، وحرب الخليج في العام 1991. لكنّ العائلات النازحة من سنجار في شمال غرب البلاد تقول إنها كانت غافلة عن جسامة هذا الخطر.
وبعد حادثة عصام في أمادي، قامت المجموعة الاستشارية للألغام، وهي منظمة غير حكومية متخصصة في التوعية من خطر الألغام وإزالتها، بوضع الأسلاك الشائكة وإشارات التحذير عند أطراف الحديقة. ولكنّ الأطفال ما زالوا يلعبون هناك، باعتبارها المساحة الخارجية الوحيدة المتوفرة لهم.
يقول نيل أرنولد، مدير العمليات الفنية في المجموعة الاستشارية للألغام، بأن نسبة مرتفعة من المصابين والقتلى جراء الألغام الأرضية في العامين الماضيين كانت من اللاجئين والنازحين العراقيين. ويوضح قائلاً: "إن السبب هو أنهم في منطقة لا يألفونها ويتجولون في أماكن يعرف السكان المحليون أنه يجدر عدم الذهاب إليها".
ويقول أرنولد بأن منظمات مثل المجموعة الاستشارية للألغام تجري أنشطة كثيرة في مخيمات اللاجئين والنازحين داخلياً لرفع مستوى الوعي من مخاطر الألغام. ولكنْ، يصعب الوصول إلى أولئك الذين يعيشون في مساكن مؤقتة، مثل عصام وعائلته، لأنهم ينتشرون في منطقة واسعة.
ويقول حسين، والد عصام، البالغ من العمر 67 عاماً، بأن الطريقة الوحيدة التي يمكنه أن يفسر من خلالها ما حدث لابنه هو قوله إن ذلك أمر مقدر من الله. ويعترف أنه حُذِّر من مخاطر الألغام الأرضية في المنطقة. ولكن، بما أنه عاش كل حياته في جزء من العراق خالٍ إلى حد كبير من هذه المخاطر، يقول بأنه لم يملك فكرةً عن مدى جدية التحذير. "بالطبع جاء بعض الأشخاص وحذرونا من إمكان وجود ألغام، لكننا لم نعتقد أنها موجودة حقاً".
ويروي عصام، وهو جالس على فراش رقيق فوق سرير معدني وينحني فوق ساقه المضمدة، ملابسات إصابته بقليل من الانفعال.
يخفض نظره، متحاشياً أي اتصال مباشر بالعين ويتذكر قائلاً: "كنا نلعب في تلك الحديقة المفتوحة. ركل أحدهم الكرة فوق السور، وسقطت أسفل التل. جلبت الكرة ورميتها إلى صديقي- كان أمامي. ثمّ بدأت المشي صعوداً، وانفجر اللغم. لا أتذكر أي شيء بعد ذلك".
يقول عصام إنه استعاد وعيه فيما كان يُنقل إلى المستشفى. "لم أكن أشعر بجسدي، لكنني شعرت ببعض الناس حولي ورأيت آخرين يمسكون ساقي،" وتوقف، متململاً مع ضماداته، وأضاف: "عرفت وقتها أنني فقدت ساقي".
وفي المستشفى الذي نُقِل إليه في دهوك، خضع لحوالي اثنتي عشرة عملية جراحية في مدة شهر. عزم الأطباء، بحسب عائلته، على إنقاذ الجزء الذي لم يتضرر من الانفجار من كاحله. قد تسهِّل عليه تلك الأجزاء من العظام والعضلات المشي بشكل طبيعي في أحد الأيام، إن تم تركيب قدم اصطناعية له.
عندما عاد ابنه أخيراً إلى المنزل، بالكاد كان يمكن التعرف عليه، بحسب ما يقول حسين. "كان محطماً وفي حالة صدمة نفسية." حالياً، تحسنت حال عصام كثيراً، ولكن حسين يقول إنه ما زال عليه أن يتماثل للشفاء النفسي الكامل. "ما زال الأثر موجوداً؛ فحين ينام، يستيقظ في كثير من الأحيان بسبب تلك الكوابيس".
ويومئ عصام موافقاً ويقول: "بدايةً، لم أستطع النوم بسبب الألم. أما اليوم، فأعجز عن النوم بسبب الصدمة".
محاطاً بأفراد أسرته، يمضي عصام معظم وقته في إحدى الغرفتين الصغيرتين اللتين تشكلان منزل عائلته المؤقت في مركز مجتمعي على طرف أمادي. هو أحد 14 شقيقاً وشقيقة، تتراوح أعمارهم بين ثمانية أعوام و30 عاماً، وعلاقته وثيقة باثنين من إخوته: أياد البالغ من العمر 25 عاماً، ونايف، البالغ من العمر 27 عاماً. عندما لا يساعدان والديهما في أداء الأعمال، يبقيان قرب عصام، يشاهدون التلفزيون أو يتراسلون مع آخرين عبر الهواتف الذكية. تلك هي اللحظات النادرة التي يبتسم فيها عصام ويسترخي ويمزح.
والمركز الجماعي هذا في أمادي، الذي ساعدت المفوضية في ترميمه لإسكان النازحين العراقيين، هو منزل 25 عائلة من سنجار. وزود الشركاء المحليون للمفوضية الأسر في المركز بالبطانيات والفرش وأدوات المطبخ.
ومع وجود حوالي 250 شخصاً يتقاسمون عشرين غرفة تقريباً، يعج المكان بالأطفال. والحديقة المجاورة لحقل الألغام حيث أصيب عصام هي المساحة الوحيدة المفتوحة للعب، وفيما يقول الأهل هنا إنهم يطلبون من أولادهم عدم اللعب خارجاً، قلة تستجيب.
يبقى عصام، الذي لا يزال غير مستعد للعودة إلى الحديقة، في غرفة العائلة، لكنّ والده وإخوته يمشون نحو السياج الذي يطل على المكان حيث انفجر اللغم. ويقول حسين: "هذه الإشارات، وضعوها هنا بعد ما حدث،" مضيفًا أن لفات الأسلاك الشائكة فوق السور هي أيضاً إضافات جديدة. ووراءه، تلعب مجموعة من الأطفال لعبة "الحجلة" (القفز على رجل واحدة من فوق خطوط مرسومة على الأرض).
يقول حسين بينما يشير برأسه إلى الأطفال: "لا أستطيع السيطرة عليهم. فحتى أبنائي يلعبون في هذه الحديقة حين لا أكون هنا".
وبالعودة إلى داخل المركز المجتمعي، تحضر أخوات عصام الشاي في المطبخ المشترك. بعد رجوع ابنهم من المستشفى إلى المنزل، يقول أهل عصام بأنهم قلقون لأنه لا يحصل على الرعاية التي يحتاجها، بما أنهم لا يستطيعون تحمل نفقات جلسات العلاج الفيزيائي أو إرساله إلى مستشفى في الخارج.
وتغطي شريكة المفوضية، وزارة الصحة العراقية، تكاليف الرعاية الصحية الأساسية التي يحصل عليها عصام.
يقول عصام: "أخبرني الأطباء بأنهم يستطيعون أن يركبوا لي قدماً اصطناعية بحلول أكتوبر/تشرين الأول، ولكن إن أجروا العملية، علي أن أدفع، لكننا لا نملك ذلك المبلغ من المال".
يقدر المستشفى أن تكلف قدم عصام الاصطناعية مليون دينار عراقي، أي ما يعادل 800 دولار أميركي. وتتخطى تكاليف هذه الرعاية قدرات عائلته المادية، وتتجاوز كذلك ما تقدر على تغطيته منظمات الإغاثة. جميع أفراد عائلة عصام لا يعملون منذ أن فروا من سنجار في أغسطس/آب الماضي. لقد استنفدوا مدخراتهم منذ ذلك الحين، ما يجبرهم على العيش على الصدقات.
ويقول نايف، شقيق عصام: "قبل اليوم، لم نطلب من أي شخص أن يقوم بأي شيء من أجلنا. أنا فقط خائف جداً ألاّ يتمكن أخي من المشي مجدداً".